من طرف أحمد علي الإثنين 06 أبريل 2015, 06:15
من أعماق قلب إفريقيا الجنوبية ينبع نهر مليء بالثروات البرية، نهر أصغر وأقصر من غيره من أنهار إفريقيا، ولكنه مفيد جداً للحياة البرية التي يمدها الله تعالى بالقوة والرزق عند مياه هذا النهر، في هذه البراري الغنية يُغري النهر كل المخلوقات ولاسيما حيوانات إفريقيا المفترسة، لهذا النهر تأثير كبير في كل الكائنات، إنه نهر الساند.
يشق نهر الساند القصير المجرى طريقه عبر أغنى المناطق البرية في جنوب إفريقيا، يتشكل هذا النهر بفعل الأمطار الصيفية المتكررة التي تتساقط على جبال "دراكسينبيرج" الشمالية، وتعتبر مياه الجداول الباردة نقطة انطلاقه.
تسير المياه عبر الغابات الطبيعية القديمة، تكمل طريقها باتجاه السهول المنخفضة لتصب أخيراً في نهر سابي، يبلغ طول النهر ثمانين كيلو متراً، وعلى الرغم من قصره إلا أنه واحد من أغنى أنهار إفريقيا وهو يكتسب هذه الأهمية لأنه يجري عبر محيمات "سابي سان جيم" ومالا مالا.
إنه شهر سبتمبر آيلول موعد انتهاء الشتاء، في هذا الوقت يجري النهر ضعيفاً، ويكشف الضفاف الرملية التي سمي باسمها، تبقى أسود نهر الساند قريبة منه؛ لأنها تعرف أنه يشكل مصدر الماء الوحيد لفرائسها، تمتد منطقة سيطرتها مسافة كيلو مترات على طول مجراه.
تتفقد الأسود الضفاف خلال النهار، تتولى الذكور حماية منطقتها لتضمن عدم اقتحام جماعات أخرى لمملكتها الملأى بالفرائس، تعتبر الجواميس من الفرائس المفضلة إذ تتعرض للخطر الشديد عندما تأتي للشرب والتمرغ في مياه النهر رغم أن مياهه منخفضة ولا تستطيع الغطس فيها.
أما طيور الماء فإن انخفاض مستوى النهر يمنحها فرصاً أفضل للصيد، إنه أخطر وقت في السنة على أسماك التيلابيا، لقد أصبحت فريسة سهلة بعد أن اجتمعت في مياه النهر المنخفضة، قد يصعب على الأسماك البلطية الإفريقية تجنب الحيوانات المفترسة، ولكن الحصول على الغذاء أصبح أمراً ممتعاً لها.
إن ارتفاع درجات الحرارة في الصيف يلائم جداً نمو الطحالب، لقد تأخر هطول الأمطار هذا العام وانخفض منسوب مياه النهر كثيراً، ولم يعد كافياً لبل قوائم الفيل، يحمل النهر - بفضل الله - الخير إلى الحيوانات المنتظرة وتكافأ الأسود على صبرها، سيزود جاموس ثمين الأسود بغذاء يكفيها أياماً عدة، يمنح الذكر القائد الذي يأكل أولاً أفراد جماعته الامتياز لتناول الطعام معه، ولكنه يذكرهم بأنه هو الزعيم.
يطلق الظبي صرخة تحذير مع أن هذه الأسود مشغولة بالنهش إلا أنه يوجد عدد آخر من الحيوانات المفترسة على امتداد نهر "الساند"، تفضل بعض الحيوانات الصيد نهاراً؛ لتتجنب المنافسة مع أقوى الحيوانات المفترسة، ولكن المنافسة مع الأسود لا تشكل الضغط الوحيد على حياة الفهدة الأم، لأنها تحتاج إلى الصيد ثلاث مرات في اليوم لإطعام صغارها وإبقائها سليمة وقوية.
إنه شهر أكتوبر تشرين الأول، وأخيراً هطلت - بإذن الله - الأمطار التي طال انتظارها إلى منطقة "بوشفيل"، ينتشر الضباب المتكون فوق الأرض والنهر القصير وكأنه غطاء، تختبر صغار الفهو أول عاصفة صيفية، وتزداد مياه النهر بسرعة.
بالنسبة إلى زعيم الحيوانات المفترسة في نهر "الساند" لم تغير الأمطار شيئاً من نمط حياته، إذ تحتاج منطقته إلى الحماية في كل الأوقات، وكذلك تكمل الحيوانات الأخرى نمط حياتها اليومي من دون أن يعترضها أحد، ولا يشكل ارتفاع منسوب الماء أي عقبة أمام أكبر الثدييات على وجه الأرض.
في الوقت الذي يصطاد فيه طائر اللقلاق في النهر يتغذى الفيل على القصب النامي فوق الضفاف الرملية المحجوبة، تستمر العواصف الصيفية بضع ساعات فقط، ولكن المياه التي تنهمر على الأرض كافية - بإذن الله - لإنعاش النباتات والحيوانات، خلال أيام قليلة يجري النهر بأقصى قوته منطبقاً عليه الوصف الإفريقي التقليدي الذي يوصف به وهو "ميتلوبوخالي" أي القوي، إنه قوي لدرجة أنه يجرف كل النباتات التي تعترض طريقه ولا تكون متجذرة جيداً في الأرض.
تستمر الفيضانات أياماً معدودة بعد أن تملأ العواصف القوية النهر، وتستغل الفيلة النهر أفضل استغلال، وتبقى في الماء أطول وقت ممكن، والآن هناك - بفضل الله - الكثير من الغذاء والماء، ويستطيع هذان الفيلان كسب بعض الوقت للعب.
حان وقت المرح إنها فترة قصيرة من السنة تستطيع فيها الفيلة غمر أجسادها في الماء كلياً وهذا أمر يصعب تحقيقه عندما تكون مياه النهر ضحلة، لا تستمر الفيضانات وقتاً طويلاً وسرعان ما يجري نهر الساند بثبات ويكمل - بإذن الله - جريانه الوفير في فصل الصيف، تجلب الأمطار الصيفية فوق هذه المنطقة - بمشيئة الله - وفرة في الغذاء للحيوانات التي تعتبر فرائس للأسود تنقسم جماعة أسود نهر الساند إلى مجموعتين يتبع كل منها فريسة خائفة، تشكل ذكور الأسود تحالفاً وتبقى قريبة من النهر حتى لو كان ذلك يعني تبلل قوائمها وهي تقوم بدوريات الحراسة الاعتيادية.
تشتهر الهررة بخوفها من الماء وهي لا تحبذ عبور النهر إطلاقاً، قائد المجموعة أشجعها وهو بحاجة إلى سبر عمق الماء، إذا أراد الأسد الأخير اللحاق بأشقائه عليه أن يعبر النهر، ولكنه يري أن يعرف من هو زعيم هذه المنطقة.
وصل النهر إلى أدنى مستوىً له، وترك وراءه بركاً مائية هادئة غذتها سيول مياه خفيفة، تشكل هذه البرك مكاناً مثالياً لتكاثر أسماك "التيلابيا الإفريقية"، إذ تجهز الذكور أولاً عشاً على شكل طبق تحرسه من اللصوص، وعندما ينتهي الذكر من تأسيس منطقته يبحث عن أنثى، تضع الأنثى بيضها في العش وتمتصها فوراً إلى داخل فمها لتحميها من الأعداء، ثم تأخذ سائل الذكر المنوي لتلقيح البيض.
تبقي الأنثى البيض في فمها ثلاثة أسابيع إلى أن يكتمل - بإذن الله- نموها وتفقس وخلال هذا الوقت تأكل ما يكفيها لتبقى على قيد الحياة، يجلب فصل الصيف معه موسم الخيرات - بفضل الله تعالى - ما يوفر ظروفاً ملائمة لتزاوج الكائنات الصغيرة.
ولكن في هذا اليوم حضر النسر مارشال إلى النهر للاستحمام، وتنظيف ريشه والتخلص من القمل غير المرغوب فيه، مع أنه من أكبر الطيور الجارحة في إفريقيا إلا أنه لن يستطيع البقاء على قيد الحياة، بوجود هذه الجواميس المذعورة.
أنهى النسر استحمامه بسرعة وغادر لتجفيف ريشه، مع تجاوز درجات حرارة الصيف حدود الثلاثين درجة مئوية لن تجازف الجواميس بالابتعاد كثيراً عن النهر، تحتاج الجواميس إلى الماء ليساعدها على التحكم بدرجة حرارتها، بعد أن تُبرِّد أجسادها تنطلق للحصول على الغذاء.
يوفر فصل الصيف - بإذن الله - الظروف الملائمة لزيادة عدد الصغار، وتلد الإناث بعض العجول، بعد ساعات قليلة تغادر الجواميس المنتعشة النهر وتنتقل إلى السهول العشبية حيث المراعي الخصبة.
توجه القطيع إلى منطقة الأسود، استيقظت الأسود من فترة نوم الظهيرة، أسدان صغيران يحدقان بالجواميس، وبسبب غرورهما نسيا هذان الأسدان الاختباء جيداً، وسرعان ما اكتشفت الجواميس وجودهما، وبوجود عجول صغيرة بين القطيع لا تجد الجواميس بديلاً عن مطاردة المتطفلين.
عادا مهزومين وأخذا يبحثان عن الراحة مع الكبار الأقوياء، وقبل أن تغرب الشمس بقليل ينقض طائر "القواند الملون" على آخر وجبة له هذا اليوم، وقبل أن يبتلعها يمزق الطائر فريسته، ومع هبوط الظلام تبدل المجموعة الثانية من أسود نهر "الساند" شخصيتها وتصبح قذرة وعدوانية.
يحلق أحد الذكور بجماعة الأسود، لقد بلغ السن التي يخرج فيها من رعاية الأم ولكنه يبقى قربها وحيداً وخائفاً، إن فرص بقائه على قيد الحياة ضعيفة، حتى مع وجود العديد من الفرائس، لا يملك خبرة الصيد وحده.
اعتادت الأسود الصيد ضمن جماعات ووالدته واثقة من مساندة زوجها، إنها تركز على فريستها، ولكن الذكر هو من سيتولى عملية الصيد هذه الليلة، تصادر الأسود هذه الفريسة من دون مشاركة أي عضو في المجموعة.
لقد حصلت هذه الأنثى على فرصتها، وهناك مخاطرة كبيرة في أن تصاب بجروح، يقف الأسد المبعد دون أمل للحصول على طعام في هذه الليلة، إنها أوقات عصيبة بالنسبة إليه، ومن دون مساعدة من مجموعته لا يقدر على الصيد وحده.
صحته في تراجع مستمر وجراحه القديمة لم تندمل بعد، يمضي يوم آخر ولا أمل في الحصول على طعام لهذا الأسد، تنتشر الفرائس في كل مكان في هذا الصباح المشبع بالندى، لقد حصلت الجواميس على حاجتها من العشب ليلاً، وكذلك الظباء.
يوجد الكثير من الفرائس لكن هذا الأسد لا يعرف الصيد، بعد أن أكل فريسته المتنازع عليها يلتحق الأسد المسيطر بجماعته ليحصل على الراحة التي يستحقها قرب النهر، تُمضي الأسود جزءاً كبيراً من حياتها مسترخية، والشبع هو أفضل عذر للراحة، هذا هو طائر "القاوند" من جديد يوم آخر من العمل ويفتتح نهاره بالاستحمام.
على بُعد أمتار قليلة تتحول أجنة الضفدع داخل العش الرغوي - بإذن الله - إلى شراغف بعد أن تتغذى على صفرة البيض، لا تزال محمية بشكل جيد داخل حاضنتها الرغوية الصلبة الغلاف، صغار أسماك "التيلابيا" محمية جيداً أيضاً، تحرسها والدتها بشراسة، ولكن فمها هو أكثر مكان آمن لصغارها.
يحتضن نهر "الساند" عدداً كبيراً من الحيوانات المفترسة في مياهه وعلى ضفافه، لقد خرجت أنثى الفهد لتصطاد منذ الصباح الباكر، وها هي تحمل الفريسة إلى صغارها، إنها أم مثالية، والتنافس بين الحيوانات المفترسة عنيف ولا تسامح فيه، وعلى الرغم من أن الفهود هي الأضعف بين الهررة الكبيرة، إلا أن هذه الفهدة وضعت ثلاثة صغار بمشيئة الله.
في الشهر التاسع من عمرها تبدأ الصغار بإظهار شخصيتها الفردية بينما يأكل اثنان بهدوء يتلقى الثالث التعليمات من والدته ويتولى الحراسة، الفريسة واضحة جداً للعيان ومعرضة كذلك للخطر، وتحتاج الفهدة إلى اخفائها بين الشجيرات الكثيفة.
تأكل أنثى الفهد قليلاً، لكنها تأكل الأجزاء المغذية، القلب والكبد، حواسه القوية تنبئها بوجود خطر قريب منها، بعد أن أنهك الجوع الأسد اشتم رائحة اللحم الطازج، لا تقوى أنثى الفهد على الأسد حتى لو كان منفرداً، تترك الفريسة على مضض؛ فالمحافظة على حياة الصغار أكثر أهمية من حماية الغذاء.
وأخيراً حصل الأسد على شيء يأكله، لقد كان ينتمي إلى فئة الأسود المسيطرة في الجزء الأول من حياته أما الآن فقد تراجع إلى مرتبة أكلة الجيف، تستدعي الأم صغارها الخائفة، عليها أن تصطاد ثانية، فنصف ظبي لا يكفي ثلاثة صغار تنمو بسرعة، ولكن مع انتهاء فصل الصيف تكون الصغار قد تعلمت كيف تصطاد وحدها، وتغادر للبحث عن منطقة خاصة بها قرب النهر.
مضى ستة أيام على بناء عش الضفادع الرغوي، وبفعل العوامل الجوية يبدأ العش بالتحلل ويذوب غلاف الحماية من حول الشراغف، مع كل نقطة تسقط من الرغوة الذائبة يهوي شرغوف في الماء، ولكن هناك حيوانات مفترسة تنتظر الانقضاض على هذه الشراغف الصغيرة.
العنكبوت الصيادة تنتظر بصبر هذه اللحظة، حقنت العنكبوت فريستها بسم يكفي لشلها فقط ولا يقتلها، وبعد ذلك امتصت العنكبوت ببطء كل السوائل الموجودة في الشرغوف الحي، قد لا تكون العنكبوت الصيادة واحدة من أكبر وأقوى الحيوانات المهاجمة إلا أنها أكثر إخافة، مع الانتقال من الصيف إلى الشتاء يقصر النهار - بمشيئة الله - ويبرد الليل، وتنتهي العواصف الرعدية وتتضاءل مياه النهر وتعود إلى مجراها ا لشتوي مظهرة الكثير من الضفاف الرملية.
تتجمع الحيوانات حول النهر بانتظار خيرات الشتاء، ولكي يبقى الأسد على قيد الحياة عليه أن يلتحق بتحالف الذكور أو يُثبت مهارته في الصيد، صغار الفهد أوفر حظاً من الأسد، لقد تركت والدتها وكونت تحالفاً فيما بينها، والصيد أسهل باجتماع قوى الثلاث.
وكبرت صغار "التيلابيا" وأصبحت أكبر من فم والدتها وانطلقت وحيدة في مياه النهر الخفيفة الجريان، حافظت أسود نهر "لساند"على سيطرتها عاماً آخر، ولكنها لا تستطيع التخلي عن حارسها، لأن دوريات الحراسة ضرورية للدفاع عن منطقتها.
بحسب المفاهيم الإفريقية قد يكون نهر "الساند" صغيراً ولكنه ينبض بالحياة، خلال فصلي الصيف والشتاء يغري نهر الساند - بإذن الله - مجموعة متنوعة من الكائنات التي تتخذ من مياهه وضفافه منزلاً لها، نهر صغير ذو قيمة كبيرة، إنه نهر الساند.
|
|