أوروبا التضامن، وليس فقط الانضباط
العالم العربي :: التـعليـم والعـلوم والتـكـنولوجيـا :: المنتدى التعليمي :: العلوم الإقتصادية و التصرف
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
أوروبا التضامن، وليس فقط الانضباط
في
الأصل، كان الاتحاد الأوروبي يمثل ما يطلق عليه علماء النفس وصف "الموضوع
الخيالي"، أو الهدف المرغوب الذي يلهم مخيلة الناس. والواقع أنني كنت أرى
فيه تجسيداً للمجتمع المفتوح ــ جماعة من الدول القومية التي تخلت عن جزء
من سيادتها من أجل الصالح العام وشكلت اتحاداً لا تهيمن عليه أي دولة أو
قومية بعينها.
غير أن أزمة اليورو تسببت في تحويل الاتحاد الأوروبي إلى
كيان مختلف جذريا. فالآن أصبحت الدول الأعضاء منقسمة إلى فئتين ــ دول
دائنة وأخرى مدينة ــ وبالطبع أصبحت الدول الدائنة هي المتحكمة في الأمر.
وتحتل ألمانيا مركزاً مهيمنا في هذا الترتيب باعتبارها الدولة الدائنة
الأكبر حجماً والأكثر جدارة ائتمانية. وتدفع الدول المدينة علاوات خطر
كبيرة لتمويل ديونها، وهو ما ينعكس في ارتفاع تكاليف الاقتراض في مختلف
قطاعات الاقتصاد لديها. ولقد دفعها هذا إلى دوامة انكماشية وفرض عليها
قصوراً تنافسيا كبيرا ــ وربما كان دائما ــ في مواجهة الدول الدائنة.
ولا
تعكس هذه النتيجة خطة مدروسة، وإنما هي سلسلة من الأخطاء السياسية. فلم
تسع ألمانيا إلى احتلال مركز مهيمن في أوروبا، وهي غير راغبة فضلاً عن هذا
في تقبل الالتزامات والمسؤوليات التي يفرضها عليها هذا المركز. وبوسعنا أن
نسمي هذا الموقف "مأساة الاتحاد الأوروبي".
ولكن يبدو أن التطورات
الأخيرة تعطينا سبباً للتفاؤل، حيث تسعى السلطات الآن إلى اتخاذ خطوات
لتصحيح أخطائها، وخاصة مع قرار تشكيل الاتحاد المصرفي وبرنامج المعاملات
النقدية الصريحة، وهو ما من شأنه أن يسمح بقدر غير محدود من التدخل من
قِبَل البنك المركزي الأوروبي في سوق السندات السيادية. كما اطمأنت الأسواق
المالية إلى أن اليورو باق. وقد يكون هذا بمثابة نقطة تحول، شريطة فرضه
بالقدر الكافي مع اتخاذ خطوات إضافية نحو المزيد من التكامل.
ولكن من
المؤسف أن المأساة التي تتوالى فصولها في الاتحاد الأوروبي تتغذى خصيصاً
على مثل هذا البصيص من الأمل. إذ تظل ألمانيا على استعداد للقيام بالحد
الأدنى من الجهد ــ ولا شيء أكثر من ذلك ــ للحفاظ على تماسك اليورو. وهو
ما من شأنه أن يديم الانقسام بين الدول الدائنة والمدينة.
ولا تبشر هذه
الفجوة المتزايدة الاتساع في الأداء الاقتصادي والهيمنة السياسية بالخير
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، ولا يجوز لنا أبداً أن نسمح لها بالتحول إلى وضع
دائم. ولابد من إيجاد وسيلة لمنع هذه الفجوة ــ فالتاريخ ليس قدراً محتماً
على أية حال. إن الاتحاد الأوروبي، الذي جاء تصميمه في الأساس كأداة
للتضامن، أصبح اليوم قائماً ومتماسكاً بحكم الضرورة البحتة. ومن غير الممكن
أن يفضي هذا إلى شراكة متناغمة. والسبيل الوحيد لعكس هذا الاتجاه يتلخص في
استعادة روح التضامن التي حركت المشروع الأوروبي منذ البداية.
وتحقيقاً
لهذه الغاية، قمت مؤخراً بتأسيس مبادرة المجتمع المفتوح من أجل أوروبا.
ومن خلال قيامي بهذا أدركت أن أفضل مكان للبدء هو من حيث تسببت السياسات
الحالية في خلق قصة أعظم معاناة إنسانية: اليونان. فالناس الذي يعانون الآن
ليسوا هم الذين استغلوا النظام وأحدثوا الأزمة. والواقع أن مصير العديد من
المهاجرين وطالبي اللجوء السياسي العالقين في اليونان محزن بشكل خاص. ولكن
من غير الممكن فصل محنتهم عن محنة اليونانيين أنفسهم. ولن تؤدي أي مبادرة
مخصصة للمهاجرين إلا إلى تعزيز مشاعر كراهية الأجانب والتطرف في اليونان.
لم
أتمكن من التوصل إلى الكيفية المناسبة للتعامل مع هذه المشكلة التي تبدو
مستعصية على الحل إلى أن قمت مؤخراً بزيارة ستوكهولم للاحتفال بالذكرى
المئوية لميلاد راؤول والنبرج. ولقد أيقظت هذه الزيارة ذكرياتي عن الحرب
العالمية الثانية ــ الكارثة التي كانت في النهاية السبب وراء مولد الاتحاد
الأوروبي.
كان والنبرج بطلاً أنقذ حياة العديد من اليهود في مسقط رأسي
بودابست بإنشاء بيوت سويدية آمنة. وأثناء الاحتلال الألماني، كان والدي
أيضاً من بين الشخصيات البطولية. فقد ساعد في إنقاذ أفراد أسرته وأصدقائه
وآخرين كثيرين. ولقد علمني كيف أواجه الواقع العصيب بدلاً من الإذعان له
بسلبية. وهذا هو ما أعطاني الفكرة.
فبوسعنا أن نقيم بيوت تضامن في
اليونان، والتي سوف تكون بمثابة مراكز مجتمعية للسكان المحليين، وتقدم في
الوقت نفسه الطعام والمأوى للمهاجرين. هناك بالفعل العديد من المطاعم
الخيرية والجهود التي تبذلها منظمات المجتمع المدني لمساعدة المهاجرين،
ولكن هذه المبادرات غير قادرة على التعامل مع مشكلة بهذا الحجم. وتصوري
يتلخص في تعزيز هذه الجهود.
لقد تعطلت سياسة اللجوء في الاتحاد
الأوروبي. إذ يتعين على اللاجئين أن يسجلوا أنفسهم في البلد العضو الذي
دخلوا إليه، ولكن الحكومة اليونانية لا تستطيع أن تعالج كل الحالات. فقد تم
وضع نحو ستين ألفاً من اللاجئين الذين سعوا إلى تسجيل أنفسهم في مرافق
احتجاز حيث الظروف غير إنسانية. والمهاجرون الذين لا يسجلون أنفسهم ويعيشون
في الشارع يتعرضون لهجمات المجرمين الهمجيين من أنصار حزب الفجر الذهبي
الفاشي الجديد.
لقد وضعت السويد الهجرة وسياسة اللجوء بين أهم
أولوياتها، في حين تعرب النرويج عن مخاوفها بشأن مصير المهاجرين في
اليونان. وهذا يعني أن كلاً من البلدين يصلح مرشحاً أولياً لدعم بيوت
التضامن. وبوسع دول أخرى ميسورة الأحوال أن تنضم إليهما. والواقع أن مبادرة
المجتمع المفتوح من أجل أوروبا على استعداد لتقديم الدعم لهذه المبادرة،
وإنني لأتمنى أن تكون مؤسسات أخرى حريصة على القيام بنفس الشيء. ولكن هذا
لابد أن يكون مشروعاً أوروبيا ــ فهو المشروع الذي لابد أن يجد طريقه في
نهاية المطاف إلى الميزانية الأوروبية.
في الوقت الحالي، يحقق حزب الفجر
الذهبي تقدماً سياسياً من خلال توفير الخدمات الاجتماعية لليونانيين في
حين يهاجم المهاجرين. وهذه المبادرة التي اقترحتها تقدم بديلاً إيجابياً
يقوم على التضامن ــ تضامن الأوروبيين مع اليونانيين وتضامن اليونانيين مع
المهاجرين. والمبادرة تقدم استعراضاً عملياً للروح التي لابد أن تبث في
الاتحاد الأوروبي بالكامل.
وفي أقرب ممكن، سوف أقوم بإرسال فريق تقييم
احتياجات مبادرة المجتمع المفتوح من أجل أوروبا إلى اليونان للاتصال
بالسلطات ــ والأفراد والمنظمات التي تساعد المحتاجين بالفعل ــ بهدف وضع
خطة نستطيع أن نعمل على توليد الدعم العام لها. ويتلخص هدفي في إعادة
الحياة إلى فكرة الاتحاد الأوروبي كأداة للتضامن، وليس فقط الانضباط.
مواضيع مماثلة
» صور لأحداث الشغب بحي التضامن
» تونس: هل يكون مشروع بيت الزكاة شبيها بصندوق التضامن الوطني 26/26؟
» الاعاقة ... اعاقة الفكر وليس الجسد !!
» حسن دندش ينتقل من التضامن إلى الرياضي ويوقع رسمياً مع بطل لبنان
» سوق الهواتف في الصين يبيعون بالكيلو وليس بالوحدة ههه
» تونس: هل يكون مشروع بيت الزكاة شبيها بصندوق التضامن الوطني 26/26؟
» الاعاقة ... اعاقة الفكر وليس الجسد !!
» حسن دندش ينتقل من التضامن إلى الرياضي ويوقع رسمياً مع بطل لبنان
» سوق الهواتف في الصين يبيعون بالكيلو وليس بالوحدة ههه
العالم العربي :: التـعليـم والعـلوم والتـكـنولوجيـا :: المنتدى التعليمي :: العلوم الإقتصادية و التصرف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى